كيف تساهم الهندسة في التنمية المستدامة؟
د. سهام رزق الله والمهندس إيلي رزق
Thursday, 25-Sep-2025 05:46

25 أيلول هو اليوم العالمي لـ"المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات"، وهو استحقاق ينبغي التوقف عنده لبلورة تموضع كل بلد وقطاع ومؤسسة، في المساهمة بتحقيق أهداف التنمية المستدامة لأجندة الأمم المتحدة لعام 2030.

في مواجهة التحدّيات الاقتصادية والبيئية والمجتمعية الراهنة، تلعب المسؤولية الاجتماعية والأخلاقيات المهنية دوراً محورياً في مهنة الهندسة، لبناء عالم يستهدف في الطليعة الابتكار. فيُسهم المهندسون في رسم ملامح عالم المستقبل من خلال التصميم بطريقة أكثر صحةً واستدامة وحسن استخدام الموارد واعتماد البُعد الأخلاقي، والحفاظ على البيئة، التنوّع، الشمول، والمساواة... كل هذه المواضيع أصبحت الآن جزءاً لا يتجزّأ من مهنة الهندسة. يُحدِث البعد الأخلاقي تحوّلاً في المهنة. يجب على المهندسين الآن مقاربة الابتكار مع ضمان سلامة عالمنا بشكل عام.

 

الاستجابة لحاجات المجتمع

 

المسؤولية الاجتماعية ترتكز على اهتمام المؤسسة خلال تأدية عملها، بالحرص على الاستجابة لحاجات المجتمع الذي تعمل فيه، والمساهمة بتنميته المستدامة بأبعادها الثلاثة الاقتصادية والبيئية والاجتماعية، وليس فقط على تحقيق الأرباح.

 

أمّا أصحاب المصالح المعنيِّين بالإستجابة إلى حاجاتهم، فهم مختلف العملاء الاقتصاديِّين المعنيِّين بعمل المؤسسة من موظفين، زبائن، مؤسسات منافسة، إدارات عامة، هيئات مدنية من جمعيات ومنظمات غير حكومية، وسائل إعلام... تربطها بالمؤسسة عقود عمل أو قوانين مرعية الإجراء، أو أنّها تتأثر بنشاط المؤسسة وتؤثر فيه من خلال تواصلها مع الرأي العام... فيكون على المؤسسة المسؤولة إجتماعياً، أن تُحدِّد حاجات المجتمع الذي تعمل فيه، وأولويات المشاريع التنموية المطلوبة، لتتمكّن من إدراجها ضمن استراتيّجياتها.

 

هكذا ترتقي المؤسسة من العمل الخيري الذي ينتهي مفعوله بشكل آني (مثل تقديم مساعدة مالية لجمعية تُعنى بالمقعدَين في منطقة معيّنة) لتلتزم بالإستجابة إلى الحاجات التنموية المستدامة للمجتمع (مثل تأمين البنى التحتية المناسبة لتنقلّهم وتوظيفهم في مشاريعها التنموية المستدامة في مختلف مناطق إنتشارهم، فيصبحون مستقلّين مالياً عن ذويهم ولا بحاجة إلى المساعدات الخيرية).

 

قطاعات الإنتاج.. العامود الفقري للاقتصاد

 

في الواقع، وبعدما تفاقمت الأزمات الإجتماعية إلى حدّ تسجيل عدم قدرة الدولة على الإستجابة لوحدها إلى الحاجات الإنسانية والإجتماعية للفرد أو الجماعة، ظهر بوضوح أنّ الهمّ الإجتماعي بات مسؤولية مجتمعية، يتشارك فيها الجميع وفي مقدّمهم قطاعات الإنتاج التي تُعتبَر العامود الفقري للإقتصاد، فتظهّرَ دور المنظمات غير الحكومية ودور المجتمع المدني، كما تبلوَر حديثاً مفهوم المسؤولية الاجتماعية، وتطوّر بسرعة ليصبح من أهمّ المبادئ التنموية على المستويَين الإجتماعي والإقتصادي، فكان من الطبيعي ازدياد إهتمام المؤسسات والشركات في ولوج هذا الباب، إسهاماً في مداواة الحاجة الإجتماعية من جهة، وترسيخاً للعلاقة المتوازنة الضرورية على الصعيدَين الاقتصادي والاجتماعي، مع التأكيد على اضطلاع الدولة بمسؤولياتها كإطار ناظم وشريك أساسي في المهمّة، في إطار ما يُعرف بالشراكة بين القطاعَين العام والخاص (PPP). أمّا عملية البناء التراكمي للمسؤولية الاجتماعية، فتعتمد على مساهمة مختلف القطاعات بها، مع الاستناد بشكل تأسيسي على المهندسين الذين يُشكّلون حجر الأساس العابر لمختلف القطاعات.

 

فالمعلوم أنّ المهندسين يواجهون قرارات لها تداعيات مباشرة على البيئة، سواء في تصميم المنتجات أو المباني أو الخدمات أو النظم الصناعية. وتزداد قضايا الاستدامة وإدارة النفايات واستخدام الموارد الطبيعية إثارة للقلق مع تزايد المخاطر البيئية. ومع ظهور الذكاء الاصطناعي وتقنيات جمع البيانات، يواجه المهندسون معضلات أخلاقية تتعلّق بالخصوصية والشفافية والتلاعب بالمعلومات الشخصية. إنّ طريقة تصميم هذه التقنيات وتطبيقها قد تُثير تساؤلات حول حقوق الأفراد، مخاطر التحيّز، وعدم المساواة في المجتمع ككل.

 

تعزيز العدالة والإنصاف الإجتماعيين

 

تُعدّ سلامة المنتجات والبنية التحتية شاغلاً رئيساً للمهندسين، سواءً في تصميم المركبات أو الجسور أو أنظمة الحاسوب. إنّ إعطاء الأولوية للسلامة على اعتبارات أخرى، كالتكلفة أو الوقت، يُثير تساؤلات أخلاقية مُعقّدة، لا سيما في ما يتعلّق بالتوازن بين المخاطر والمنافع.

 

من هنا يتبيّن الدور الرئيسي للمهندسين في المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات، لأنّ للمهندسين دوراً في تعزيز العدالة والإنصاف الاجتماعيِّين. ويشمل ذلك مراعاة احتياجات المجتمعات المهمّشة، مكافحة التحيّز والتمييز، وضمان استفادة جميع أفراد المجتمع من التقنيات والبنية التحتية، من دون إقصاء أو ظلم.

 

كما تتطلّب المسألة الأخلاقية منّا النظر في الابتكار، من خلال مراعاة جميع آثاره على المجتمع والبيئة، في كل مرحلة: الدراسة والبحث، التصميم، التصنيع، التطوير، وإعادة التدوير، إلخ.

 

يشمل هذا المنظور الجديد في مهنة الهندسة معايير عديدة، لاسيما منها استهلاك الطاقة، الموارد الطبيعية المستخدمة، المواد المستخدمة، أساليب التصنيع، استدامة المنتج أو الخدمة، إدارة النفايات، الإنصاف، احترام السكان وسلامتهم، الحفاظ على التنوّع البيولوجي، والبصمة الكربونية، إلخ.

 

اليوم، المهندس لم يَعُد ذلك الذي يرسم خطوطاً على الورق، بل أصبح شريكاً في بناء الأمل، في إعادة ترميم ما كسرته الحروب، وفي فتح دروب جديدة للفئات المهمّشة. هو مَن يبتكر حلولاً لِمَن لا تصلهم الخدمات، ومَن يُصمِّم مساحات تراعي ذوي الاحتياجات، ومَن يعمل ليجعل من مدننا أماكن تستحق أن نعيش فيها... لا أن نهرب منها.

 

وليتحقق ذلك، نحن بحاجة إلى دول تُفكّر بطريقة جديدة. دول تجرؤ على الابتكار، لا تخشى التجربة، ولا تخجل من التعلّم. نحتاج إلى ما يُعرف بـ«الدولة الابتكارية»، دولة تُنصِت للناس، تحوّل الأفكار إلى مشاريع، وتمنح المجتمعات المحلية فرصة أن تكون شريكاً في القرار والتنفيذ.

 

المجتمع المدني شريك في البناء

 

ولأنّ التحدّيات كبيرة، فإنّ المجتمع المدني لا يمكن أن يقف متفرّجاً. الجمعيات، والنقابات، والإعلام، والمبادرات الشبابية، تظل مجموعة أصحاب المصالح المؤثرة بخيارات المؤسسات والمتأثرة بها، كلّها باتت اليوم شريكة في بناء وطن يستحق الحياة. لا دولة تنغلق على نفسها، بل مجتمع يمدّ يده للعلم، للخبرة، وللتجارب الناجحة. وقد أكّدت وثائق الأمم المتحدة على الدور المحوَري للمجتمع المدني كشريك استراتيجي في تحقيق الأمن والتنمية، وقدّمت تعريفاً له، وفقاً لمنهاجها الإنمائي، بأنّه فضاء يضمّ شبكة متنوّعة من الكيانات المستقلة والتي ينضمّ إليها الأفراد طواعية، مثل الجمعيات النقابات المؤسسات البحثية، وسائل الإعلام وتعنى بالدفاع عن حقوق الإنسان، وتعزيز التنمية المستدامة.

 

والهندسة هنا، مجدّداً، ليست مجرّد بناء أبراج، بل ترميم ذاكرة، وحماية تاريخ، وتخطيط لمستقبل أكثر رحمةً بالناس وبالطبيعة. من إدارة النفايات إلى الطاقة النظيفة، من سلاسل الإنتاج إلى العدالة البيئية. المهندس يستطيع أن يكون في قلب المشروع النهضوي للبناء بحس المسؤولية الاجتماعية والتنمية المستدامة.

 

وفي خضم العَولمة المتسارعة وتفشي التهديدات غير التقليدية، كالتهديدات السيبرانية والجرائم الإلكترونية والتغيّر المناخي وانتشار الأوبئة، والتي تفرض على الدول اعتماد استراتيجيات متكاملة ومرنة للتنسيق بين مختلف الجهات الفاعلة، بما في ذلك المؤسسات الحكومية، منظمات المجتمع المدني (والقطاع الخاص)، سعياً لبناء منظومة دفاعية وطنية متينة وقادرة على التصدّي لتلك التحدّيات، فالأمن الوطني في القرن الـ21 يمثل منظومة متكاملة، تعزّز مرونة الدولة وقدرتها على مواجهة التحدّيات المتجدّدة باستراتيجيات استباقية وشاملة. ويبقى أنّ التنمية المستدامة نمط حديث وإطار عمل استراتيجي متكامل يُجسّد نموذجاً حضارياً معاصراً، صُمِّم لمواجهة تحدّيات العصر الراهن، وغايته بناء واقع مستدام يُلبِّي احتياجات الحاضر من دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها، ويرتكز هذا النموذج على التوازن الدقيق بين الأبعاد الاجتماعية الاقتصادية والبيئية، واضعاً جودة حياة الإنسان في صميم اهتماماته، ويتمّ ذلك من خلال ترسيخ مبادئ العدالة الاجتماعية، وتحفيز النمو الاقتصادي المستدام، مع الحفاظ على البيئة وصَون التنوّع البيولوجي، بالإضافة إلى ضمان الاستخدام الأمثل للموارد، بعيداً من الإسراف والتبذير. إذ يُترجم هذا المفهوم إلى نهج تكاملي يسعى إلى تحقيق التنمية الشاملة والمتكاملة، فيُحقق الإزدهار للإنسان وللكوكب على حدٍّ سواء.

الأكثر قراءة